كتبت: آيات مصطفى
حضارة مصر ليست للبيع
في عصرنا الحالي نواجه محاولات سرقة التاريخ وتشويهه، فقد ظهرت موجة فكرية تُعرف بـ"الأفروسنتريك" (Afrocentric)، تدعي أن الحضارة المصرية القديمة ليست عربية ولا حتى مصرية، بل أفريقية خالصة من صنع شعوب جنوب الصحراء الكبرى.
هذه الفكرة، التي تلقى رواجًا في بعض الأوساط الأكاديمية الغربية وأفريقيا السوداء، ليست مجرد جدل ثقافي، بل هجوم مباشر على هوية أقدم وأعرق حضارة في التاريخ: الحضارة المصرية.
ما هي "الأفروسنتريك"؟
الأفروسنتريك هي حركة فكرية ظهرت في أواخر القرن العشرين، تروج لفكرة أن مساهمات الشعوب الأفريقية السوداء في الحضارة الإنسانية تم التعتيم عليها أو تجاهلها من قبل التأريخ الأوروبي.
من حيث المبدأ، تبدو الفكرة نبيلة، لكنها حين تتجاوز المنطق وتبدأ في نسب حضارات بأكملها – كالحضارة الفرعونية – إلى شعوب لا علاقة لها بها جغرافيًا أو لغويًا أو أثريًا، فإن الأمر يتحول إلى تزوير ممنهج.
الرد العلمي على مزاعم الأفروسنتريكيين:
1. اللغة والكتابة:
اللغة المصرية القديمة، بجميع مراحلها (الهيروغليفية، الديموطيقية، القبطية)، لا تنتمي لأي فرع من اللغات الزنجية أو الأفريقية بجنوب الصحراء، بل هي من عائلة اللغات الأفروآسيوية، التي تضم العربية والأمازيغية والعبرية، مما يربطها ببيئة شمال أفريقيا والشرق الأدنى.
2. الفن والنقوش والملامح:
الجداريات والتماثيل الفرعونية تصور الفراعنة بمواصفات تختلف تمامًا عن ملامح الزنوج الأفارقة (الشفاه الغليظة، الأنف العريض، الشعر الملفوف)، بل تظهر ملامح أقرب إلى سكان مصر الحاليين.
وقد صنّف المصريون القدماء أنفسهم بوضوح في نقوشهم على أنهم شعب مميز عن النوبيين جنوبًا أو الليبيين غربًا أو الآسيويين شرقًا.
3. الأنثروبولوجيا والتحليل الجيني:
دراسات الحمض النووي على مومياوات من عصر الدولة الحديثة أثبتت أن جينات الفراعنة تتشابه أكثر مع سكان مصر الحاليين وشعوب الشرق الأدنى، وليس مع سكان أفريقيا جنوب الصحراء.
إحدى الدراسات الشهيرة نُشرت في مجلة Nature Communications (2017)، وأثبتت أن المومياوات الفرعونية أقرب وراثيًا إلى شعوب البحر المتوسط والشرق الأدنى من الجنوب الأفريقي.
4. الجغرافيا والتاريخ:
لا يمكن تجاهل أن الحضارة المصرية نشأت في وادي النيل الشمالي، حيث الصحراء الشرقية والغربية والبحر المتوسط، في منطقة ذات اتصال تاريخي بمناطق الهلال الخصيب وليست منعزلة في عمق أفريقيا السوداء.
ردود نموذجية على المشككين:
1. "الفراعنة كانوا سودًا، بدليل أن مصر في أفريقيا"
الرد:
كون مصر تقع في أفريقيا جغرافيًا لا يعني أن سكانها من العرق الزنجي.
أفريقيا متعددة الأعراق والثقافات، ومصر تقع في شمال القارة، وامتزجت عبر التاريخ مع حضارات البحر المتوسط والشرق الأوسط.
فلا أحد يقول إن الليبيين أو المغاربة زنوج فقط لأنهم أفارقة.
2. "التماثيل الفرعونية أُنفتها عريضة وشعورهم مجعدة، إذًا هم سود"
الرد:
استخدام الفن الرمزي كان شائعًا في مصر القديمة.
وقد استخدم المصريون أنماطًا رمزية تميز الملوك أو الكهنة أو حتى طبقات المجتمع المختلفة.
فكثير من التماثيل لا تحمل ملامح شخصية بل تميل إلى التعميم، كما أن هناك تماثيل بملامح مختلفة تمامًا في مواقع مختلفة، مما يثبت التنوع وليس الانتماء لعرق واحد.
3. "النوبيون كانوا جزءًا من الحضارة المصرية، وهذا دليل على أصلها الأسود"
الرد:
نعم، كان هناك تداخل ثقافي وتجاري وحتى سياسي بين مصر والنوبة، لكن العلاقة كانت بين حضارتين مختلفتين.
بل في بعض الفترات، غزا الفراعنة النوبة، وفي أخرى غزا النوبيون مصر، مثل عهد الأسرة الخامسة والعشرين.
وهذا التداخل لا يعني أن أحدهما أنشأ الآخر.
4. "الغرب يرفض الاعتراف بأن الفراعنة سود، لأنه عنصري"
الرد:
العلم الحقيقي لا يخضع للأهواء السياسية أو "النيات الطيبة".
ولو أثبتت الأدلة العلمية أن الفراعنة زنوج، لاعترف بذلك الجميع.
لكن الأدلة كلها – من علم الجينات إلى التاريخ إلى الآثار – لا تدعم هذا الادعاء، بل تناقضه تمامًا.
الحضارة المصرية ملك لأصحابها
لسنا ضد الاعتزاز بالهوية الأفريقية، ولسنا ضد تصحيح التاريخ، لكننا ضد التزييف والانتحال.
فالحضارة المصرية ليست بحاجة إلى من يُثبت عظمتها، لكنها بحاجة إلى من يحميها من السرقة الثقافية الحديثة تحت ستار "التمركز الأفريقي".
مصر كانت وستبقى مركزًا للحضارة الإنسانية، وملكًا لأحفادها الذين حافظوا على لغتها، واديها، وهويتها آلاف السنين.