كتبت: آيات مصطفى
في قلب الصحراء المصرية، بين الرمال التي تخفي أسرار العظماء، وتحت ظلال الأهرامات الصامتة، تتلألأ حكاية ملكية فريدة، بطلتها أميرة لم يُنصفها التاريخ كما يليق بمجدها، لكنها تركت أثراً من الذهب والفن والعبقرية، ما زال يبهر أعيننا بعد أكثر من أربعة آلاف عام.
إنها الأميرة خنمت، سيدة الزهور، وحاملة تاج اللوتس، ابنة إحدى أعظم سلالات الدولة الوسطى، وعلامة شاهدة على أوج الحضارة المصرية القديمة في رقتها وعمقها وجمالها.
كنز من السماء... تاج الأميرةخنمت الفريد
من بين كنوز دهشور التي عُثر عليها في مقبرة ملكية نادرة، يبرز تاج الأميرة خنمت كجوهرة لا مثيل لها، قطعة فنية تخطف الأنفاس وتُجسد تلاقياً مدهشاً بين الحرفية العالية والرؤية الفنية الملهمة.
حيث يتكوَّن هذا التاج من أكثر من ٢٠٠ زهرة لوتس ذهبية، تلتف بتناغم حول رأس الأميرة، كما لو أن النيل نفسه قرر أن يهب زهوره للخلود.
الذهب الخالص، المشغول بأسلاك دقيقة، يحتضن أحجارًا كريمة مختارة بعناية:
الفيروز بلونه السماوي الذي يعكس نقاء الروح
العقيق الأحمر كدماء الفراعنة النبيلة.
والكرنالين، حجر الشمس، الذي اعتبره المصريون رمزاً للحياة والطاقة والحماية.
كل هذه المواد، المنصهرة في تناغم مذهل، صنعت تاجاً ليس مجرد زينة ملكية، بل لوحة حية لمحاكاة الطبيعة، رسمها أعظم صائغي مصر القديمة.
من هي خنمت؟
رغم أن اسمها لم يُتَداول بكثرة بين أسماء الملكات الشهيرات، إلا أن خنمت كانت إحدى الأميرات البارزات في زمن الدولة الوسطى، عصر النهضة الأدبية والمعمارية والعلمية.
كانت ابنة الملك أمنمحات الثالث، أو واحدة من نساء القصر المقربات منه، وكانت زوجة للملك سونسرت الثاني وأم للملك سونسرت الثالث، وقد عاشت في فترة شهدت تطوراً عظيماً في فنون الحلي والزينة والعمارة والفكر، ما يفسر رُقي كنوزها وفرادتها.
لم تكن خنمت مجرد أميرة مقيمة في القصر، بل يبدو من تركتها أنها كانت رمزًا للخصوبة والجمال المقدس، ذات صلة طقسية وروحية بالآلهة.
فزهور اللوتس على تاجها لم تكن اختيارًا عشوائيًا، بل رمزًا للبعث والتجدد، ورسالة واضحة بأن هذه السيدة كانت تحمل معنىً أعمق من الجمال: كانت رمزًا للحياة نفسها.
دهشور تتكلم... والمتحف المصري الكبير يُنصت
كنوز الأميرة خنمت وُجدت في دهشور، حيث أقيمت مقابر ملوك وملكات الدولة الوسطى، هناك، في باطن الأرض، انتظر تاجها آلاف السنين قبل أن يُكشف عنه النقاب، ويعود ليُبهر العالم من جديد.
اليوم، وعلى مشارف افتتاح قاعة الكنوز الملكية في المتحف المصري الكبير، يستعد تاج خنمت لأن يحتل مكانته اللائقة، ليس فقط كأجمل ما أبدعه فنانو مصر القديمة، بل كشاهدٍ على عبقرية حضارة خلدت الزمان.
إرث من الضوء... وامرأة من ذهب
قصة الأميرة خنمت لا تقتصر على تاج فريد أو كنوز ذهبية، بل هي قصة امرأة صنعت من نفسها أسطورة، تركت لنا ملامحها بين الزهور والأحجار الكريمة.
إنها ليست فقط صورة من الماضي، بل رسالة إلى المستقبل، تهمس لكل من ينظر إلى تاجها: "أنا خنمت، زهرة النيل، وابنة الشمس، من أرض المجد والخلود."
فلتنحنِ الحضارة، ولتتأمل العيون، ولينحني التاريخ احتراماً لتلك السيدة التي لبست الجمال تاجًا، وجعلت من الذهب قصيدة صامتة، لا تُقرأ بالكلمات، بل بالبصر والبصيرة.